فصل: تفسير الآية رقم (57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (57):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)}
والخطاب هنا للناس جميعاً؛ لأن الحق سبحانه حين يخاطب المؤمنين بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ} [البقرة: 104].
فهذا خطاب لمن آمن بالمنهج.
والحق سبحانه وتعالى يخاطب الناس كافّةً بأصول العقائد، مثل قول الحق سبحانه: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1].
أما المؤمنون فسبحانه يكلّفهم بخطابه إليهم، من مثل قول الحق سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183].
ومثل قول الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178].
أي: أن خطابه سبحانه للمؤمنين يكون دائماً في الأحكام التي يخطاب بها المؤمنين، أما في أصول العقائد والإيمان الأعلى بالواجد الموجِد، فهذا يكون خطاباً للناس كافة.
والحق سبحانه يقول هنا: {ياأيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ} [يونس: 57].
والأية هنا تصوِّر الموعظة وكأنها قد تجسَّدت وصار لها مجيء، رغم أن الموعظة هي كلمات، وأراد الله تعالى بذلك أن يعطى للموعظة صورة الحركة التي تؤثِّر وتحضُّ على الإيمان.
والموعظة هي الوصية بالخير والبعد عن الشر بلَفْظ ٍمؤثِّر، ويقال: فلان واعظ متميز، أي: أن كلامه مستميل وأسلوبه مؤثر وجميل، والموعوظ دائماً أضعف من الواعظ، وتكون نفس الموعوظ ثقيلة، فلا تتقبل الموعظة بيسر إلا ممن يجيد التأثير بجمال الكلمة وصدق الأداء؛ لأن الموعوظ قد يقول في نفسه: لقد رأيتني في محل دونك وتريد أن ترفعني، وأنت أعلى مني. فإذا قدَّر الواعظ هذ الظرف في الموعوظ فهو يستميل نفسه.
ولنتذكر الحكمة التي تقول: (النصح ثقيل، فلا تجعلوه جَدَلاً، ولا ترسلوه جَبَلاً، واستعيروا له خِفَّةالبيان)؛ وذلك لتستميل أذن السامع إليك فتأتي له بالأسلوب الجميلَ المقنع الممتع الذي يعجبه، وتلمس في نفسه صميم ما ترغب أن يصل إليه.
والموعظة تختلف عن الوصية؛ لأن الوصية عادة لا تتأتى إلا في خلاصة حكمة الأشياء، وهَبْ أن إنساناً مريضاً وله أولاد، وحضرته الوفاة، فيقولم بكتابة وَصِيَّته، ويوصيهم بعيون المسائل.
والحق سبحانه يقول هنا: {قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ} [يونس: 57].
والموعظة إما أن تسمعها أو تفرضها، ولأنها موعظة قادمة {مِّن رَّبِّكُمْ} فلابد من الالتفات والانتباه، وملاحظة أن الحق سبحانه قد اختص الموعظة بأنها من الرب، لا من الإله؛ لأن الإله يريدك عابداً، لكن الرب هو المربِّي والكفيل، وإن كفرت به.
وهذه الموعظة قادمة من الرب، أي: أنها من كمالات التربية، ونحن نعلم أن متعلقات الربوبية تتوزع مابين قسمين: القسم الأول هو مقوِّمات الحياة التي يعطيها الحق سبحانه من قُوت ورزق وهذه المقومات للمؤمن، وللكافر والقسم الآخر هو مقومات القيم التي ترسم منهج حركة الحياة، وهذه للمؤمن فقط.
إذن: فالموعظة هي نوع من التربية جاءت من ربكم المأمون عليكم؛ لأنه هو الذي خَلَق من عَدَم وأمَدّ من عُدْم، ولم يختص بنعمة الربوبية المؤمنين فقط، بل شملت نعمته كل الخلق.
إذن: فالموعظة تجيء ممن يُعطي ولا ينتظر منك شيئاً، فهو سبحانه مُنزَّه عن الغرض؛ لأنه لن ينال شَيئاً منك فأنت لا تقدر على شيء مع قدرته سبحانه.
والموعظة القادمة بالمنهج تخصُّ العقلاء الراشدين؛ لأن حركة العاقل الراشد تمر على عقله أولاً، ويختار بين البدائل، أما حركة المجنون فهي غير مرتَّبة ولا منسَّقة، ولا تمر على عقله؛ لأن عقله مختل الإدراك وفاقد للقدرة على الاختيار بين البدائل.
ولكن لماذا يُفسِد العاقل الاختيار بين البدائل؟
إن الذي يفسد حركة اختيار العاقل هو الهوى، والهوى إنما ينشأ مما في النفس والقلب؛ ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور} [يونس: 57].
أي: أنه سبحانه قد أنزل عليكم ما يشفي صدوركم من غِلّ يؤثر في أحكامكم، وحقد، وحسد، ومكر، ويُنقِّي باطن الإنسان؛ لأن أي حركة من حركات الإنسان لها نبع وجداني، ولابد أن يُشفى النبع الوجداني؛ ليصحَّ؛ حتى تخرج الحركات من الجوارج وهي نابعة من وجدان طاهر مُصفّى وسليم؛ وبذلك تكون الحركات الصادرة من الإنسان سليمة.
ولذلك قال الحق سبحانه: {وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
وجاءت كلمة (الشفاء) أولاً، لتبيِّن أن الهداية الحقَّة إلى الطريق المستقيم تقتضي أن تُخْرِج ما في قلبه من أهواء، ثم تدلَّه إلى المنهج المستقيم.
وإن سأل سائل عن الفارق بين الشفاء والرحمة؟ نجيب: إن الشفاء هو إخراج لما يُمْرِض الصدور، أما الرحمة فهي اتْباع الهداية بما لا يأتي بالمرض مرة أخرى، وأقرأ إن شئت قول الحق سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].
وهكذا يتبيَّن لنا أثر الموعظة: شفاء، وهدى، ورحمة، إنها تعالج ليس ظواهر المرض فقط، ولكن تعالج جذور المرض.
إذن: فشفاء الصدور يجب أن يتم أولاً؛ لذلك نجد الطبيب الماهر هو من لا ينظر إلى ظواهر المرض فقط ليعالجها، ولكنه يبحث عما خلف تلك الظواهر، على عكس الطبيب غير المدرَّب العَجُول الذي يعالج الظاهر دون علاج جذور المرض.
ومثال ذلك: طبيب الأمراض الجلدية غير الماهر حين يرى بثوراً؛ فهو يعالجها بما يطمسها ويزيلها مؤقَّتاً، لكنها تعود بعد قليل، أما الطبيب المدرَّب الفاهم فهو يعالج الأسباب التي تُنتج البثور، ويزيلها بالعلاج الفعَّال؛ فيقضي على أسباب ظهورها.
وفي القرآن الكريم نجد قصة ابتلاء سيدنا أيوب عليه السلام، فقد قال له الحق سبحانه: {اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42].
أي: اضربْ برجلك ذلك المكان يخرجْ لك منه ماء بارد، تغتسل منه؛ فيزيل الأعراض الظاهرة، وتشرب منه ليعالج أصل الداء.
إذن: فالموعظة وكأنها تجسَّدت، فجاءت من ربكم المأمون علكيم شفاءً حتى تعالج المواجيد التي تصدر عنها الأفعال، وتصبح مواجيد سليمة مستقيمة، لا تحلُّل فيها، وهدى إلى الطريق الموصِّل إلى الغاية الحقَّة، ورحمة إن اتبعها الإنسان لا يُصَابُ بأيِّ داءٍ، وهذه الموعظة تؤدي إلى العمل المقبول عند الله سبحانه.
ولكن إنْ صحَّتْ لك الأربعة النابعة من الموعظة: الشفاء، والهدى، والرحمة والعمل الصالح، فإيّاك أن تفرح بذلك؛ ففوق كل ذلك فضل الله عليك؛ ولذلك يقول الحق سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ}

.تفسير الآية رقم (58):

{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)}
وأنت وكل المؤمنين مهما عملوا في تطبيق منهج الله، فكلُّنا بعبادتنا لن نؤدي حَقَّ النعم الموجودة عندنا قبل أن نُكَلَّف، وعلينا أن نتدبَّر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله». قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا إلا أنْ يتغمَّدني الله برحمته).
إذن: فإن افتخر إنسان بطاعته لله، فهذه الطاعة تعود على العبد في دنياه، وهو لن يؤدي بطاعته حق كل النعم التي أسبغها الله عليه.
ومثال ذلك: إن العبد لا يُكلَّف إلا عند البلوغ، أي: في سنّ الخامسة عشر تقريباً، فإ نظر إلى النعم التي أسبغها الله تعالى عليه حتى وصل إلى هذه السِّنِّ، فهو لن يحصيها، فما بالنا بالنعم التي تغمرنا في كل العمر، وحين يجازينا الحق في الآخرة، فهو لا يجازينا بالعدل، بل يعاملنا بالفضل.
إذن: إياك أن تقول: أنا تصدَّقتُ بكذا، أو صلّيت كذا؛ حتى لا تورثك استجابتك لمنهج الله غروراً بعملك التعبُّديِّ، وتذكَّر القول المأثور: (رُبَّ معصية أورثتْ ذُلاً وانكساراً، خيرٌ من طاعةٍ أورثتْ عِزّاً واستكبارا).
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنزَلَ الله لَكُمْ}

.تفسير الآية رقم (59):

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)}
إن تمتع الإنسان في الحياة بالمُلْك والمِلْك، فكل ذلك يحتاج إلى استبقاء الحياة بالرزق الذي يهبُنَا الحق سبحانه إيّاه، وكذلك استبقاء النوع بالتزواج بين الذكر والأنثى.
ولكن الرزق الذي يستبقي الحياة لابد أن يكون حلالاً؛ لذلك حدَّد لنا الحق سبحانه وتعالى المحرَّمات فلا تقربها، وأنت عليك بالالتزام بما حدَّده الله، فلا تدخل أنت على ما حلّل الله لتحرِّمَه؛ لأن الحق سبحانه حدَّد لك من الطعام ما يستبقي حياتك ويعطيك وقوداً لحركة الحياة، فعاملْ نفسك كما تعامل الآلة التي تصنعها، فأنت تعطي كل آلة الوقود المناسب لها لتؤدي مهمتها، كذلك جعل الله سبحانه لك المواصفات التي تنفعك وتستفيد منها وتؤدي حركات الحياة بالطاقة التي يمدّك بها ما حَلَّله الله لك.
وكذلك حرَّم الله عليك ما يَضُرُّك.
وإياك أن تقول: ما دامت هذه الأشياء تضرّني فلماذا خلقها الله؛ لأن عليك أن تعرف أن هناك فارقاً بين رزق مباشر، ورزق غير مباشر، وكل ما في الكون هو رزق، ولكنه ينقسم إلى رزق مباشر تستفيد منه فوراً، وهناك رزق غير مباشر.
ومثال ذلك: النار، فأنت لا تأكل النار، لكنها تُنضِج لك الطعام.
إذن: فهناك شيء مخلوق لمهمة تساعد في إنتاج ما يفيدك.
والحق سبحانه قد حلّل لك على سبيل المثال لحم الضأن والماعز، والإبل والبقر وغيرها، وحرَّم عليك لحم الخنزير، فلا تسألْ: لماذا خلق الله الخنزيرَ؛ لأنه خَلقه لمهمةٍ أخرى، فهو يلملم قاذورات الوجود ويأكلها، فهذا رزق غير مباشر، فاتركه للمهمة التي أراده الله لها.
وبعض الناس قد حرَّم على نفسه أشياء حلَّلها الله تعالى، وهم بذلك يُضيّقون على أنفسهم، ويظن البعض أنه حين يحلّل ما حرَّم الله أنه يوسِّع على نفسه، فيأمر الحق سبحانه رسول صلى الله عليه وسلم أن يقول: {أَرَأَيْتُمْ ما أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ} [يونس: 59].
أي: أخبِروني ما أنزل الله لكم من رزق، وهو كل ما تنتفعون به، إما مباشرةً، وإما بالوسائط، فكيف تتدخلون بالتحليل والتحريم، رغم أن الذي أنزل الرزق قد بيَّن لكم الحلال والحرام؟!
وكلمة {أَنزَلَ} تفيد أن الرزق كله قادم من أعلى، وكل ما ترونه حولكم هو رزق، تنتفعون به مباشرة، أو بشكل غير مباشر، فالمال الذي تُشترى به أغلب الأرزاق لا يأكله الإنسان، بل يشتري به ما يأكله.
وكلمة {أَنزَلَ} تعني: أوْجَدَ، وخلق مِنْ أعلى، وما دام كل شيء قد وُجد بمشيئة مَنْ هو أعلى من كل الوجود، فكل شيء لصالحك مباشرة أو بوسائط.
ولا تأخذ كلمة {أَنزَلَ} من جهة العلوّ الحسية، بل خُذها من جهة العلوِّ المعنوية، فالمطر مثلاً ينزل من أعلى حسيّاً، ويختلط بالأرض فيأخذ النبات غذاءه منها، والرزق بالمطر ومن الأرض مُقدَّر ممّن خَلَق، وهو الأعلى سبحانه.
وقد قال الحق سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25].
نعم، فقد أنزل الحق سبحانه منهجه على الرسل عليهم السلام لتصلح حياة الناس، وأنزل الحديد ايضاً، هذا الذي نستخرجه من الجبال ومن الأرض.
إذن: فالمراد هنا بالإنزال، أي: الإيجاد ممن هو أعلى منك لصالحك أيها الإنسان.
وما دام الحق سبحانه هو الذي أنزل الرزق، وبيَّن الحلال والحرام، فلماذا تُدخِلون أنوفكم في الحلال والحرام، وتجعلون بعض الحلال حراماً، وبعض الحرام أو كُلَّ الحرام حلالاً؟ لماذا لا تتركون الجَعْل لمن خَلَق وهو سبحانه أدْرى بمصلحتكم؟
{قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59].
أي: هل أعطاكم الله سبحانه تفويضاً في جَعْلِ الحلال حراماً، والحرام حلالاً؟ {أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] أي: على الله تتعمدون الكذب.
وقد جاء الحق سبحانه بالحلال والحرام ليبيِّن لنا مدى قُبح السلوك في تحريم ما أحلّ الله، وتحليل ما حرَّم الله.
ويشير الحق سبحانه في إجمال هذه الآية، إلى آيات أخرى فَصَّلت الحرام، وسبق أن تناولناها بخواطرنا، مثل قوله تعالى: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103].
والبَحيرة كما ذكرنا هي الناقة التي أنجبتْ خمس بُطونٍ آخرها ذَكَر، وكانوا يشقُّون أذنها، ويعلنون أنها قامت بواجبها ويتركونها سائمة غير مملوكة، لا يركبها أحد، ولا يحمل عليها أحد أيَّ حِمْل، ولا يحلبها أحد، ولا يجزّ صوفها أحد، ثم يذبحها خُدَّام الآلهة التي كانوا يعبدونها، وسَمَّوها (بَحيرة)، لأنهم كانوا يشقون آذانها علامةً على أنها أدَّتْ مهمتها.
أما السائبة فهي غير المربوطة؛ لأن الربط يفيد الملكية، وكان الواحد منهم إذى شفي من مرض أو أراد شيئاً وَهَبَ أن يجعل ناقةً لخدَّام الأصنام، واسمها سائبة، وهي أيضاً لا تُركب، ولا تُحلب، ولا يُحمل عليها، ولا أحد يتعرَّض لها.
والوصيلة: هي الأنثى تلدها الناقة في بطن واحدة مع ذكر، فيقولون: (وَصَلَتْ أخاها)؛ فلا يذبحونه للأصنام من أجل أخته.
{وَلاَ حَامٍ} والحام: هو الفَحْل الذي يحمي ظهر نفسه بإنجاب عشرة أبْطُن، فلا يركبه أحد بعد ذلك، ولا يُحمَل عليه، ويترك لخدَّام الأصنام.
هذه هي الأنعام المحلَّلة التي حرَّموها على أنفسهم، بينما يأكلها خُدَّام الأصنام، وفي ذكر عدم تحريم تلك الأنعام رأفة بهم.
وهناك أيضاً قول الحق سبحانه: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [الأنعام: 143- 144].
إذن: فقد حَرَّموا بعضاً مما أحلَّ الله لهم، وقالوا ما أورده القرآن: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إلى الله وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136].
وأجمل الحق سبحانه كل ذلك في قوله الحق: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} [يونس: 59].
وهكذا تدخَّلوا في تحريم بعض الحلال وحلَّلوا بعضاً من الحرام، وفي هذا تعدٍّ ما كان يجب أن يقترفوه؛ لأن الحق سبحانه هو خالقهم، وهو خالق أرزاقهم، وفي هذا كذب متعمَّد على الله سبحانه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب}